26 يناير 2012

قافلة العبيد.. بقلم : محمد فال ولد سيدي ميله

الكاتب الصحفي: محمد فال ولد سيدي ميله.


"إذا كان مسعود قد تحرر، فإن جابهَ الله ما زالت رهن الاستعباد. وإذا كان مطلب التغيير يعني شيئا، فإنه سيظل يعني فك قيود جابهَ الله" .. هكذا يتصور الكاتب عبيد ولد إميجن.
وهكذا هو منطق الأشياء .. فلا شيء يمنع العبيد السابقين، ومن هم على شاكلتهم من الأسياد التائبين، من البحث عن كل السبل المفضية إلى تحرير "جابه الله" ومثيلاتها.
وعندما تضيق أرض العبيد بما رحـُـبت، وينعق في وجههم غراب النحس الإقطاعي، يكون السفر واجبا؛ ففيه المتنفس للصدر المبحوح، وفيه الغربة عن "بلاد الطاعون".
إذن فلتتحرك قافلة العبيد، جنوبا، نحو "الحبشة"، عسى "النجاشي" يصغي - كعادته- إلى "رسالة المستضعفين".
انقسمت قافلة العبيد إلى ثلاث مجموعات، انطلقت كلها من نواكشوط باتجاه نهر السينغال. مجموعتان (يترأسهما يعقوب ولد السالك وحمادي ولد لحبوس، دليلهما الشاب ديدي) توجهتا إلى دكانه، شرق روصو حيث المعابر أكثر سرية وأوفر عددا.. ومجموعة (يترأسها الداه ولد مبروك، وبمعية الشاب يكبر ولد لميلح وكاتب الحروف) توجهت إلى سد جاما.
كان رئيس مجموعتنا، الداه ولد مبروك البـَـرَتـي (نسبة إلى قرية بَرَتْ)، يعتز بأنه "حلال المشاكل بالمنطقة، العارف بشعابها، الخبير في وديانها وجداولها، المتمرس على اجتيازها جيئة وذهابا". كان يردد بأنه "ملك منطقة ما وراء مدينة كرمسين". كان الأمر بالنسبة لي قرع فنجان أو ضرب رمل بقوقع (ما صدقته وما كذبته). عندما تجاوزنا كرمسين، كان الداه يستنشق أريج الأعشاب والأُضِـي وهو يستعيد ذكريات أطلال درست وديار عفت. إنه يريد أن يقول بأنه "ابن شمامه وعصارة تاريخ الماء والبقر والمزارع والبعوض".
شمامه، من ببتور، إلى المانكويني، مرورا بالصطاره، فجكينات، فسكام، فطمباص، فلعويجه، فالليات، فخملش: كلها معاهد تذكــّـر بالعبودية بشقيها: الأقنان والنخاسة. الأقنان هم أولئك العبيد القاطنون بمزارع يحرثونها، ويحاربون طيورها وجرادها، وعندما يأتي موسم حصادها يجدون أنفسهم مرغمين على دفع خــُـمس نتاجها للأسياد.. ظاهرة تعج بها سهول شمامه. ورغم أنها تناقصت، فثمة جيوب ما تزال تمارسها ببشاعة إلى يومنا هذا متحدية ما يعرف بـ"قانون الإصلاح العقاري". أما النخاسة (أي بيع العبيد) فكانت شمامه خزانها الأول ومعينها الدائم الخرير. وكانت الذرة والشعير والبـُـر والفاصوليا والعبيد تشكل خيرات من المأثور عن أجدادنا أن علينا أن نأخذها، دون أن نجعل من شمامه وطنا أبدا.. ولعل يعقوب ولد السالك ما يزال يعيش مرارة مأساة النخاسة منذ أن علم بأن أخته، أم العيد، بيعت في الأربعينات، وأنها الآن مسجلة في الصحراء الغربية باسم "عيده". وكلما تقدمت به السن، كبر معه الشوق إلى رؤيتها وعناقها وضم أبنائها إلى صدره.
كان عدد العبيد في مجموعتنا ثمانية (ثلاث نسوة وخمسة أطفال).. كان مناضلو المبادرة الانعتاقية، الذين حرروهم من الأسر قبل سنة، يعملون كل ما في وسعهم من أجل راحتهم. لكن معضلة هؤلاء أنهم لا يملكون أية أوراق مدنية ثبوتية، وأن خروجهم من دولة ودخولهم دولة أخرى مسألة تبدو أشبه بالمستحيل. غير أن الداه ما يزال مصرا على أنه قادر على إخراجهم وإدخالهم بشتى الوسائل ..
وصلت السيارة إلى الحدود النهرية .. استوقنا الدرك .. لم يكن سائقنا لبقا بالدرجة الكافية مما عرضنا لخطر التفتيش، ومن ثم السؤال عن هوية الركاب وأهداف سفرهم.. تمكن الداه من تهدئة الأعصاب بين السائق والدركي المرابط عند "الثغور".. دخل معه في المركز و"ناقشا".. عاد مزهوا بنجاحه في أولى المهمات.. يبدو أن الرجل "ملك بَـرَتي" بالفعل.. طلب منا الشابان (الداه ويكبر) أن ننزل لأن السيارة ستقلهما إلى قرية بَـرَتْ لأخذ بعض مستلزمات السفر، على أن نبقى نحن مع الدرك عند نقطة التفتيش.. غادرت السيارة، وبقينا نحن في مواجهة المجهول.. لقد أحسست أنني بحاجة حقيقية إلى "الملك البرتي" لمواجهة أي طارئ.. فكرت في أننا أصبحنا محل شبهة جلية: ثلاث نساء سوداوات كالفحم، وخمسة أطفال سود كسهول شمامة، ورجل وجد أول فرصة ليكون أبيض.. فعندما تــُـجالس عبيدَ "أهل الفيجح" لابد أن تكون أبيض، وإلا فاتتك الفرصة إلى الأبد.. يبدو أن وسائسي مرت برأس الدركي، فاقترب منا سائلا:

إلى أين تتجهون؟

فكرت في اللعب على وترين؛ أحدهما معرفة الأرض، والثاني معرفة سوسيولوجيا السكان. قلت له:
نحن متجهون إلى "هلار" لحضور زفاف صديق وقريب لنا يدعى يعقوب ولد السالك. قال:

وأين توجد هلار؟

قلت:

على بعد سبعة كيلومترات بعد سد جاما.

قال، باحثا عن ثغرة:

لم أسمع بـ"هلار".. ما هي أشهر القرى الموجودة بجواره؟

قلت:

أشهرها "انخيله"، وهي تبعد منه ثلاثة كيلومترات. مع أن هلار لا يحتاج إلى تعريف فقد تغنى به الشعراء اللهجيون بروائع خالدة:

منْ هلارْ المَـشــْـرَعْ نبْـغيهْ= يَعْرَفْ عنــِّي واتجدْ اعليهْ

والمشرعْ يَـعرف لمغلــِّـيهْ= اعليَّ؛ فايْــدُ من لخبارْ

الِّ يعرفْ بيهْ اتفُ بيهْ= عنُّ غالِ مشرعْ هلارْ

بدا أنه اقتنع بجدية المسعى، خاصة أن نقاط العبور لا تعدم حالات من هذا النوع.. فكرتُ في "متلازمة استوكهولم" لدى لحراطين، فاستطردت قائلا:

هؤلاء المساكين، رغم مطالبهم وتمرداتهم، مرتبطون بنا في كل شيء. فإذا أرادوا قرانا يلجأون إلينا لعقده، وإذا مات أحدهم يلجأون إلينا للصلاة عليه ...

أحضر الدركي كأس شاي وارتاح للحديث.. ناولني إياه كتعبير عن نهاية "التحقيق" سلميا.. لقد تجاوزنا إحدى أهم العثرات في غياب "الملك البرتي".. ولولا أنه لا نار ولا كرباج، ولولا أنهم لم يتحلقوا من حولنا مثل الكواسر والوحوش، لحسبتها "ليلة عند الدرك"، ولظننت أن التاريخ يعيد سيمفونية ولد عبد القادر بنسخة جديدة.
اتصل علي الرئيس بيرام وأنا أسامر الدركي .. لخصتُ الحديث ما أمكن، وحاولت إنهاء المكالمة بأقل خسارة.
عاد الداه ولد مبروك مع رفيقيه (السائق ويكبر) .. ما يزال الداه واثقا من قدرته على تجاوز كل الصعاب فهو "ابن المنطقة وملكها". ولم تكن تنتابه الشكوك التي راودتني حول إمكانية فشل المهمة بوشاية "مسبقة" أو تحقيق عفوي. والحقيقة أن دخول "ملك جاولين" إلى بيت الدرك و"نقاشه" معهم، مهد الطريق لتجاوز المعضل الأول؛ فلا عبيد أهل الفيجح سُـئلوا عن أوراق ثبوتية يفتقدونها كلهم، ولا نحن حـُـقق معنا تحقيقا صارما حول مقاصدنا.
رفع "الملك" حاجز الدرك بيده، وأشار إلى السيارة بالعبور، لتدخل إلى حيث حاجز آخر تابع للشرطة الموريتانية.. لم يتطلب الأمر أكثر من دقيقة ليعود إلينا "ملك جاولينغ" رافعا الحاجز، آمرا السيارة بالدخول.. لم يبق أمامنا إذن إلا الاتجاه، من فوق السد، نحو أول وقفة تفتيش سينغالية.. كانت الفرحة عارمة.. لكن هاجس الأوراق الثبوتية لدى "عبيد أهل الفيجح" عاد ليراودنا مجددا.. قال الداه: "أتركوا الأمر بيدي، فهذه أرضي، وهؤلاء أهلي، وهنا ولدت وترعرعت".. مضى "ملك جاولينغ" إلى مركز شرطة السينغال، وعاد مسرعا حاملا معه مفتاحا لقفل محكم الإغلاق على الحاجز.. فتحه ورفع الحاجز ودخلنا دون أن نرى أي شرطي.. ولكي يُجَـنــّـب سيارة النقل الموريتانية الإجراءات المعتادة، حوّل وجهتها إلى قرية "جاما" (الواقعة أربعة كيلومترات من السد) تاركا لدى الشرطة أوراقها في انتظار عودتها ..
ها هي قافلة العبيد في قرية جاما. هل من الصدفة أن "جامْ" تعني العبد باللهجة الولفية المحلية؟.. تساؤل غير مهم البتة.. فيما أصبح وجود الشاب يكبر ولد لميلح ذا أهمية قصوى لأنه يتحدث الولفية بطلاقة تفوق الجميع.. كان يناقش الناقلين، ويطرح الأسئلة الضرورية، ويدفع بالإجابات اللازمة.. كان لابد لنا من سيارة أجرة تقبل حملنا برمتنا: ثلاثة رجال من "إيرا"، ثلاث نسوة وخمسة أطفال من "مجلوب السودان".. هكذا، على مدى قرون، كان المفهوم السائد لدى الطبقة العالمة.. ففي سوق النخاسة يكثر استخدام "المجلوب" لـ"قطعان" العبيد المعروضين للبيع، رغم أن العلامة أحمد بابه التمبكتي (وهو أسير في المغرب لدى ملك السعديين أحمد منصور الذهبي) أفتى بـ"حرمة استرقاق المسلم، وحرمة بيع الرقيق المجلوب من بلاد تدين بالإسلام".. لقد ذهب عبد القادر السبسبي أبعد من ذلك محرما الاسترقاق حتى في حق الكفار، فقال بأن الله "لم يأمر برقّ ولا استرقاق؛ لأنهما يتنافيان مع مبادئ الإنسانية (فطرة الله التي فطر الناس عليها)، وقد خول الله للمسلمين –حال انتصارهم على المحاربين وأخذهم أسرى- بأن يتبعوا أحد ثلاثة أحوال: 1- القتل، 2- الأسر، 3- العفو. (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقابِ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مناً بعد وإما فداءً حتى تضع الحربُ أوزارها)".
أقنع الشاب يكبر أحد "التاكسيمانات" .. ركبنا ونحن ستة بالغون، سابعنا سائقنا، ووزعنا الأطفال على الأفخاذ والبطون وربما الرقاب.
وصلنا مدينة سان الويس، العاصمة السياسية لموريتانيا في ظل الاستعمار.. المدينة المعروفة بـ"اندر" حيث ازدان وتألق وذاع الأدب الحساني أكثر من أية بقعة في الأرض .. "أندر" حيث عاش الزنجي دودو سيك (محمدن ولد أبن المقداد) الذي فاق فحول البيظان في شعرهم، وحيث سجن الأمير سيدي أحمد ولد أحمد عيده؛ فكان - على غير عادة الأمراء- يأكل بلا "نديم" فقال أبياته الشهيرة:
مارتْ عـَـنـْـدِ= عنِّ مكبوظ
نوكلْ وَحْدِ= كيفْ أمَـكروظ

وحيث قال "مطلعه" الشهير:
اتشاييرْ انخـَـلْ هاذ الوادْ،

فقال دودو سيك، مصححا:

"يا فتى، ما ستتحدث عنه ليس وادا، إنه "دخلـَـه".

فاستطرد الأمير مرتجلا في عجالة أربكت النقاد:

وللَّ زادْ الدخلَ لعَادْ
ماهُ وادْ، إزيدْ التفكادْ ...
"أندر" حيث "صالة أميسه فدرو" (مونسيي فيديرب)، و"صالة محمد لحبيب"، وحيث عزف الجوق الفرنسي لأمراء الترارزه موسيقاهم الخالدة في "أزوان البيظان" في عملية استنساخ تحت اسم "أزويزويات أهل أعمر ولد اعلي".. أندر حيث حفظ التاريخ مقطوعات ملحمية للأمير عبد الرحمن ولد اسويد أحمد، ومقطوعات من شواهد الأدب لأهل هدار وولد ابنو ولد احميدن وابـَّـفال والشيخ ولد مكيّنْ.. أندر حيث وُلدَ أكبر ملاكم في تاريخ إفريقيا، الحرطاني الشهير امبارك فال الذي فاز في فرنسا وبلجيكا، وأصبح بطلا للعالم في الولايات المتحدة قبل اغتياله على يد متطرفين من اليمين العنصري.
نزلنا عند بائع شواء قرب محطة الركاب.. تناولنا اللحم المشوي، و"الشاي المشوي" (فلون الشاي في الضفة اليسرى يختلف عنه في الضفة اليمنى).. لاحظت أن أطفال العبيد منضبطون، لا يـُـكثرون البكاء ولا يصرون على الطلب.. ما هي الأبعاد السيكولوجية لهذه الظاهرة؟ .. لست أدري.
لم نكن نعلم عن المجموعتين المتبقيتين من "قافلة العبيد" أي شيء، اللهم اتصالات خاطفة يجريها يعقوب ولد السالك بين الفينة والأخرى.. كان يعقوب يزجر ويأمر، لكنه لا يفصح ولا يشرح .. ربما اتبع استراتيجية أعطت نتيجة عكسية لأننا شددنا الرحال، وهـْـنا من الليل، متجهين إلى "جزيرة الليبيو"، بينما كان هو وحمادي قد خططا للإلتحاق بنا في سان الويس .. في دكار نزلنا في منزل عتيق يملكه المرحوم ألاجي افال: جد "ملك جاولينغ" .. وجدنا في المنزل امرأة قططها ثلاثة، وبعلها سافر لحضور "يوم التعظيم" في طوبى، وسلامها "نينكادوف"، ولولا الملحفة لذابت نهائيا في مجتمع الزنوج .. وكم هو "صعب وبسيط" أن يذوب هؤلاء في مجتمع الزنوج! .. فبعضهم زنوج اختطفهم بيظان، وبعضهم زنوج اشتراهم بيظان، وبعضهم زنوج باعهم زنوج، دون أن ننكر نظرية "الأصل الأهرضني" للبعض الآخر.

كان المناضل أحمد ولد حمدي يراسلني بمستجدات "عين فربه"، وما طرأ من أخبار عن معتقلي "إيرا" (أعلي ولد رافع، المهدي ولد لمرابط، لحبوس ولد عمر، عبد الله ولد آبو جا). ورغم أن المناضلين "خــَــنــْـفــَــروا" بكل ما أوتوا من قوة، إلا أن همي تمثل في إقناعهم، بدعم من بيرام ويعقوب، بضرورة إنهاء الإضراب عن الشراب لأنه مهلكة غير مبررة، وهو ما نجحنا فيه في النهاية.
حمَـلنا الانعتاقي مالك افال من منزل آلاجي افال بـ"سيكاب باوباب" إلى "امبوت" (50 كلم من دكار) .. ثم عرج بنا 4 كيلومترات .. نزلنا في ضيعة الشيخ عالي انضاو .. كان شجر المنغو منتظما في لوحات فنية فريدة.. متصوفون من كل الجنسيات يعملون بنشاط ماكيني (يزرعون، يطبخون، يغسلون، يكنسون ...) .. داخل الضيعة خيول وبغال وكلاب ومنزل وسيارات وأدعية وصلوات .. يبدو أن علاقة صوفية تربط مالك افال (القيادي في "إيرا") بالشيخ المريدي عالي انضو، الفيلسوف، أستاذ الأنتروبولجيا الذي انزوى في مزرعة متعبدا وداعيا إلى الله .. هنا، علمت لأول مرة أن مالك افال متصوف يتعاطى ورد الشيخ أحمدو بمبه.
التقيت بالشيخ في ثيابه الرثة .. كان متواضعا بشكل لافت .. لم يكن يَـخفى على ناظره أن "في جُـبـَّــته حلاج" وأن "في منزله" "عدوية" من أصل أوربي .. لا أدري ما إذا كنت ناقشت الشيخ أم أخذتُ عنه دروسا .. وبفرنسيته المعافاة قال، في ما قال، ان شيخه، الشيخ أحمدو بمبه، "حرث الأرض وبذل الجهد من أجل أن يتمتع بحرية الإبداع" .. وبالنسبة له فإن "وراء كل فكر سليم بُـعد اقتصادي"؛ لذلك فهو وتلاميذته يزرعون وينمون ليل نهار بغية تحقيق نظرية جميلة نادى بها منذ سنوات؛ إنها "الاقتصاد من أجل السلام" .. ويرى الشيخ انضو أن "القاتل والمقتول ضحيتان، والسارق والمسروق عليه ضحيتان" لذلك يقول: "إذا حوكم ملاك العبيد، وحكم عليهم، ونفذ فيهم الحكم، فيجب أن لا يعني ذلك انتصارا للعبيد، فهو في الحقيقة انتصار لملاك العبيد والعبيد معا؛ فملاك العبيد ضحية لتراكمات ثقافية هدامة، صنعها نظام اجتماعي لم يستشرهم، والعبيد ضحايا استرقاق صنعه نظام اجتماعي لم يستشرهم". هكذا يدعو الشيخ إلى "النضال السلمي" على طريقة الماهاتما غندي والشيخ أحمدو بمبه. ففي اعتقاده أن "النضال يجب أن يتوجه إلى الظالم والمظلوم في آن واحد وبنفس الوسائل الرحيمة لأنهما يشكلان ضحيتين حقيقيتين"، وأن "الاقتصاد واللاعنف وحدهما الكفيلان بالحل السلمي المريح".

وصلت المجموعتان المتبقيتان: عبيد أهل حاسين، وعبيد أهل عبد الله ولد المختار (سعيد ويرك وبلال وحبي) وحنه وامباركه وآخرون (نساء ورجال وأطفال)، بالإضافة إلى "العريس" يعقوب ولد السالك و"بشوش إيرا" حمادي ولد لحبوس .. لم يكن سعيد يحلم بأكثر من حداء ناقة على مشارف انواكور .. إنه الآن يستعد لزيارة إحدى أهم العواصم الإفريقية.

حدثت "الرفيقين" عن الشيخ عالي انضو، وكيف جذبني بشكله وبمضمون خطابه.. انتابهما الحنين للقاء المتصوف الذي ألف كتاب "مستهل الطريق نحو السلام" وكتاب "رؤية من أجل مجتمع مسالم".. طلبنا دقائق من وقت الشيخ المنشغل أبدا بـ"رسالته العالمية".. حدثنا عن نظرياته، وعن تطبيقاتها في أنحاء عديدة، كما حدثنا عن التصوف قائلا بأن "من الناس من أخذ بظاهر الدين، ومنهم من أخذ بباطنه؛ وأولئك هم أهل الصوفة". كما حدثنا عن "المدرسة الدولية للتصوف" التي أنشأها. وقال بأن ملهمه الأول هو الشيخ سيدي أحمد ولد أسمهُ الديماني، وأنه يزور "انتمركاي" في جنوب موريتانيا تبركا بهذا العالم الصوفي الذي أخذ عنه الشيخ أحمدو بمبه الكثير وساعده في بلورة كفاحه السلمي ضد الاستعمار. وقال الشيخ أنضو ان الشيخ أحمدو بمبه اقترح على الشيخ سيدي أحمد ولد أسمه أن "يتخذ من سان الويس مقرا له ليخفف المعاناة في مجتمع تتحكم فيه جدلية المستعمِـر والمستعمـَـر".
في المساء، حضرنا حفلا صوفيا بدأ بمداخلات عامة وانتهى بإنشاد صوفي عذب .. كانت الهنديات تغنين بمديحيات الشيخ أحمدو بمبه وهن لا يفقهن الكثير عن محتواها، لكن وجـْـدانهن كان مليئا بالشطح والمعاني السامية للربوبية ..

كان "ملك جاولين" يتمايل طربا، وقد حمله "الجذب" إلى مجاراتهن في الإنشاد، وربما سها فسكتن وتابع هو بصوت غير رخيم.
في الصباح الباكر، توجهنا إلى دكار لحضور مؤتمر صحفي يعقده رئيس المبادرة الانعتاقية، بيرام ولد الداه ولد اعبيد .. وصلنا إلى مقر "اللقاء الإفريقي للدفاع عن حقوق الإنسان" .. كان شباب "إيرا-السينغال" قد رتب كل شيء (من القهوة إلى المقاعد إلى الدعوات) .. وفي هذه اللحظة بالذات التقينا لأول مرة منذ مقدمنا بالرئيس بيرام والناشطيـْـن الكاتبين، عبيد ولد إميجن وجبريل جالو.. دخل العبيد في قاعة المؤتمر، لا "تسمع لهم ركزا": نفس الانضباط والهدوء والانصياع للتعليمات. لقد خلق الرق منهم أناسا طائعين طيّـعين .. كان "عريس هلار" يكرر كلما ألقى نظرة على سعيد: "آه، كمْ طاشت إبل أهل حسين!".
قبل وصول الصحافة السينغالية، التقيت مصطفى توري، المعارض الأبدي، منسق روابط اللاجئين الموريتانيين في السينغال ومالي .. دردشنا قليلا .. قال بأنه لا يعرف ما الهدف من قول وزير الداخلية، ولد ابيليل، بأنه ليس على علم بلاجئين موريتانيين في مالي. "في حين أن الدولة الموريتانية، في عهد ولد الشيخ عبد الله، بعثت بلجنة وزارية اطلعت ميدانيا على أعداد وأحوال اللاجئين الموريتانيين في مالي".. أكد توري أن في مالي 10 آلاف لاجئ مسجلين لدى منظمة غوث اللاجئين. وقال بأن "العون الدولي في حلحلة مشكل اللاجئين أتى في سياق مسلسل سياسي، ولما وقع الانقلاب اختفت إرادة الشركاء الدوليين". وأردف أن "شروط عودة من تبقى من اللاجئين تتمثل في حل معضل الإحصاء، التعويض للمسفرين، حل مشكل الأراضي، النظر في قضية الإرث الإنساني".
بدأت فعاليات المؤتمر الصحفي .. قال بيرام ولد الداه: "إذا كانت جزيرة غوري موجودة تاريخيا في السينغال، فإنها واقع معيش في موريتانيا". وطالب بيرام بـ"أفرقة الكفاح ضد العبودية في موريتانيا، كما تمت أفرقة الكفاح ضد لابارتايد في جنوب إفريقيا". وأكد بيرام أن "شعار المبادرة الانعتاقية لسنة 2012 هو القضاء على الرق" .. ثم أعطى الكلام للعبيد بغية الإدلاء بشهاداتهم .. تحدثت كل واحدة وكل واحد عن مأساته.. ذكروا الإهانة والعمل الشاق والفــُـرقة والاغتصاب والتعذيب .. وكان سعيد أضعف قافلة العبيد أداء.
ذهبنا إلى منزل بحي "خورو نار" (وادي البيظان، في بيكين) .. انتظرنا المساء، وعندما بثت "والفجر" و"آفريكا7" فعاليات المؤتمر أحس الجميع بالراحة .. فالرسالة قد بلغت، وبأسلوب أخاذ.
وقع الاتفاق على أن القافلة يجب أن تمر من معبر روصو وفي وضح النهار .. شددنا الرحال وتوجهنا إلى روصو .. وكما كانت وفود الحراطين "تتقاطر" على بيرام في دكار، كان أيضا محجة لعدة وفود في روصو- السينغال، كما سيكون في روصو موريتانيا .. شربنا الشاي عند محل "درباكه". واعتلينا العبّارة متوجهين إلى موريتانيا .. تمت إجراءاتنا بشكل سريع، لكن "العبيد" واجهوا مشكلة عند الشرطة. وسريعا ما تركتهم الشرطة يخرجون بعد تسجيل أسمائهم وبعد احتجاج خاطف من الرئيس بيرام ورفاقه .. وعندما خرجنا من ساحة العبّارة علمنا أن الدرك أوقف "القافلة" بحجة عدم امتلاك العبيد لأية أوراق .. عدنا أدراجنا إلى العبارة ورفعنا الصوت محتجين. قال بيرام موجها كلامه إلى السلطة بأن "الأسياد لم يساعدوا عبيدهم أبدا في امتلاك هويات ثبوتية".. أمضينا دقائق وتوصل الدرك إلى أمر بترك القافلة تسير .. كان علينا أن نبلغ الصحافة بالحادث.. اختلفتُ مع جبريل جالو حول العبارة الأسلم لما وقع.. قال جبريل بأن الأمر يتعلق بـ"اعتقال"، وقلت بأنه يتعلق بـ"عرقلة" .. اتصل قبلي بالصحافة مقدما وصفه، واتصلت بعده بها مقدما وصفي .. تذكرت ما سطره الكاتب ابراهيم ولد بلال من أننا "لا نريد قلب التاريخ (ولا الحقائق) رأسا على عقب، بل نريد محاكمته و تجاوزه لبناء دولة لا تابع فيها ولا متبوع". والحقيقة أننا، كما قال بيرام في خطاب جائزة "ويمار"، "لم نختر الكفاح. لكنه فـُرض علينا".
محمد فال ولد سيدي ميله

ليست هناك تعليقات: