26 مارس 2014

وثائق الرحالة السكير..( غاستون دونيه)..... الحلقة الأولى...

نختار لكم هذه المرة، من ضمن ترجماتنا لوثائق الاستعمار الفرنسي، أهم محاور رحلة المستشكشف غاستون دوني (Gaston Donnet) التي حاول من خلالها السفر من سان الويس (اندر) إلى المغرب والجزائر عساه يُعَــرّف الإدارة الفرنسية على طبائع السكان وعاداتهم وتضاريس بلادهم وكيفية ربط مستعمرة الجنوب (السينغال) بمستعمرات الشمال. ورغم أن الوثيقة لم تحمل تأريخا محددا (أو واضحا) فمن المؤكد أن الرحلة قد انطلقت قبل 1896، بينما نشرت رسميا سنة 1901.
يذكر أن وثيقة الرحالة الفرنسي جاءت تحت عنوان: "ولوج الصحراء عبر بلاد البيظان الرّحل".
.....................
ملاحظات:
  1. ستجدون جُملا غير مستقيمة لغويا (خاصة في الحوارات المنسوبة للمترجم البيظاني محمد أعمر وبعض مرافقي الكاتب من الزنوج السينغاليين). وقد أوردناها في مسعى منا للقيام بترجمة أمينة للأسلوب الفرنسي المتكسر داخل النسخة الأصلية. وللعلم فقد أكثر المستشكفون والرحالة الفرنسيون من نقل مثل تلك الجمل سيئة الحبك بغية التهكم على مستوى السكان المحليين في التعاطي مع اللغة الفرنسية.
  2. دينا ساليفو الذي سترونه داخل النص، أو ديناه ساليفو كمرا، هو آخر ملوك شعب النالو في غينيا. كان من ألد أعداء الاستعمار قبل أن يتعامل مع المستعمر الفرنسي ليضمن بقاء عرشه المهدد من قبل بعض أقاربه. كان أول ملك إفريقي يزور باريس لحضور المعرض العالمي للفنون المعمارية سنة 1889 حيث حضر تدشين برج إيفل الشهير. وقد ذاع صيته بسبب تناول الإعلام حينها لذلك الحضور اللافت واستهزائه ببدائية الموكب الملكي الإفريقي. عاد إلى وطنه في ظل أحداث دموية واقتتال بيني على السلطة المحلية. قررت الإدارة الفرنسية التخلص منه لتهدئة الوضع فانتهى به الأمر مرغما على الإقامة الجبرية في سان الويس بالسينغال مع بعض أفراد أسرته حيث توفي فقيرا سنة 1897 بعد حياة حافلة بالبؤس.
  3. المترجم محمْدْ أعمر (أو محمد ولد أعمر) لم نعثر له بعد على هوية اجتماعية أو على تفاصيل عن حياته. إلا أنه كان من أخلص المترجمين للوالي الفرنسي فيديرب وغيره من الإداريين الذين عايشهم.
..............................
ولوج الصحراء عبر بلاد البيظان الرّحل
أطلب من القراء أن يتساهلوا في الحكم على صحيفة السفر هذه. لقد فشلتُ في هذه الرحلة عندما سافرت من سان الويس بهدف الوصول إلى المغرب عبر الصحاري الواقعة بينهما، إلا أن عداوة السكان الأصليين ومرض رفيقي الفرنسي ونقص آليات للتتبادل ووسائل النقل أمور أرغمتني على أن أرجع القهقرى وأنا بعد لم أتجاوز تيرس.. أي أن مسار سفري ذهابا وإيابا بلغ 1500 كلم. إن علي أن أعيد الكرة. وسأعيدها طبعا.
مهما يكن، فوفق معاهدات 1890 فإن الصحراء تعود إلينا. وإننا نرجو، بل إن من واجبنا أن نضع سياسة صحراوية يسيطة تقوم على ربط الجزائر بالسينغال. إنها سياسة بسيطة إذا ما ألقينا نظرة على الخريطة، لكن تنفيذها على أرض الواقع يشكل معضلة. لقد قيم بمحاولات كثيرة ومحبطة كلها. هكذا في سبيل ذلك مات دورنو دبيري وجوبير، ومات فلاتير ومرافقوه، كما مات دونَ بلوغ هذا الهدف كامي دولس وموريس ومارسيل بالا وكالو. أما لارغو فاعتقل عند بوابة عين صالح، وكاد سان لا يبلغ تماسين، وطرد بيان من تيوت، أما فورو فيحاول كل سنة، مدفوعا بمثابرة عالية، لكنه يرجع المرة تلو المرة بعد تعرضه مرارا للضرب والسرقة والنهب.
الشخصان الوحيدان اللذان نحجا في إتمام الرحلة دون النتيجة المبتغاة هما غاستون ميري وبرنارد دتانو.
الرحالة المستكشفون الذين قاموا بمحاولات انطلاقا من الشمال مات جلهم. أما أنا فسأنطلق من الجنوب. فالسكان الأصليون المحاذون لمنطقتنا الجنوبية (السينغال) أقل عداوة لنا لأنه لا توجد أسباب مباشرة تدفعهم إلى ذلك. وهم نسبيا أكثر ودا كما أنهم طيّـعون أكثر من سكان الشمال. وإن الحكم الذي نمارس على جيرانهم في السينغال والسودان (مالي) يفيدهم أكثر مما يغيظهم لأننا نمارسه على الزنوج: أعدائهم الطبيعيين. إذن أعتقد أن رحالة يريد بلوغ هدفه عليه أن يسافر انطلاقا من سان الويس بمحاذاة المحيط الأطلسي حتى الرأس الأبيض ومنه إلى واحات آدرار فتيرس. وفي آدرار عليه أن يفاوض الأمير أحمد عيده من أجل حمايته حتى يتجاوز مرتفعات إكيدي (الشمالي) المجهولة، فيصل اتوات وبني عباس وإيكلي وأوران، ومن ثم يكون بمقدوره أن يقدم دراسة وافية عن الأرض التي يراد أن تشكل رابطا بين الشمال والجنوب.
ها نحن في سان الويس مع الوالي الفرنسي السيد دو لاموث وهو خمسيني بدين وقصير وثرثار ومرح، قال:
  • إنهم أناس بائسون هؤلاء البيظان. أنتم تعرفون المثل الولفي الذي يقول: "إذا لقيت على طريقك بيظانيا وأفعى، فاقتل البيظاني". لكنه سيكون من المهم جدا أن نصل آدرار رغم صعوبة الأمر. مع العلم أن أحمد عيده شخص كتوم، يريد أن يحقق غاياته الخاصة دون أن يقبل بإشراك الأوربيين. أخيرا بإمكانكم أن تحاولوا، لكنني أشك في إمكانية نجاح المهمة.
إن علي أن أقول بأن الوالي دو لاموث يعارض إرسال أية بعثة إلى شنقيطي عاصمة واحات آدرار، لأنه كلف للتو الرجل الذكي جدا، ولد ابن المقداد، بالاتصال بزعيم أولاد يحي بن عثمان، وهو ينتظر بفارغ الصبر نتائج هذه المبادرة. هل نحن بحاجة إلى القول بأن ولد ابن المقداد لن ينجح في مهمته؟.. إننا نحصل دائما على نتيجة سلبية كلما أوكلنا إلى أحد السود (ولو كان أذكاهم) مهمة ربط علاقات سياسية أو تجارية بالبيظان. فالبنسبة للبيظان فإن التكارير والولوف أقل شأنا وأدنى مرتبة منهم. إنهم عبيد بالنسبة لهم تقريبا. لا يمكن للبيظان أن يفهموا أبدا أن يكلف الأوربيون أحد العبيد بالقيام بمهمة دبلوماسية لدى أمير بربري كثيرا ما يكون ابن النبي أو على قرابة به.
قال الوالي بأنه في الأسبوع المقبل سيمنحنا مترجما ورسالة استيصاء لدى حليفنا أحمد سالم (أمير الترارزه).
بعد أيام من هذا الحديث التقينا مارلين (مدير الشئون السياسية) الذي قال لنا:
  • لدينا أخبار سيئة. فالإداري المكلف بدكانه تم اغتياله اليوم على يد بيظاني.
  • ما سبب اغتياله؟
  • كانت هناك مشادة. ولما تدخل فينسان لتهدئة الوضع، أطلق عليه أخ الأمير أحمد سالم النار فأرداه قتيلا لأنه خاف من أن يوقفه الاداري على خلفية المشجارة.
  • كيف تحدث جريمة مثل هذه على بعد خطوات قليلة من سان الويس؟ وماذا سيترتب عليها؟
  • لا أعرف. لكن أخشى أن يؤدي هذا الحادث المؤلم إلى تمرد داخل الترارزه. على كل حال سأنتقل الليلة إلى دكانه لأطـّـلع على الوضع عن كثب.
  • وبالنسبة لنا نحن؟
  • ليس عليكما سوى الانظار.. فالوالي لا يريدكما أن تغادرا في هذه الظروف.
  • كم من الزمن ترى أنه سيبقينا هنا؟
  • لا أعرف. شهر.. شهران...
ونحن في طريقنا مطأطئي الرؤوس نحو مكان سكننا، التقينا مسشار الوالي النقيب تافرنوست. فقال لنا:
  • إذا كان الفراغ قد استبد بكما، وكنتما ترغبان في ساعتين من التسلية، فما عليكما إلا التوجه نحو منزل دينا ساليفو.
  • دينا ساليفو، الملك السابق للينيز؟.. ذلك الرجل الذي أدخل السرور على سكان باريس سنة 1889؟
  • نعم، هو بالذات.
توجهنا نحو منزل جلالته في حي السكان الأصليين.. كان منزلا مبنيا على الطريقة الأوربية.. عندما رآنا دينا اسقبلنا أمام المنزل مع اثنين من أبنائه. إنه طويل ونحيف، يقارب الخمسين سنة. كان يلبس فضفاضة بيضاء فخمة شابها احمرار ميدالية الشرف التي علقها عليها باعتزاز.
كان جلالته يحتفظ بذكريات جميلة عن زيارته للمعرض العالمي في باريس.. لقد أعجب بالعديد من المعماريين الفرنسيين. فإذا كان إيفل (صاحب برج أيفل الشهير) لا يتمتع بالكثير من المعجبين في فرنسا، فيمكنه أن يطمئن بأن له معجبون في إفريقيا. فجلالة الملك دينا لا يتوقف عن الحديث عن "هذا الكوخ العالية، العالية، العالية، وكلها من الحديد، مع مصاعد تصعد وحدها...". وكما لو كان دينا يخشى أن يسيء إلينا بعدم الحديث عن عاصمتنا، قال:
  • باريس أيضا، كبير كثير، كبير أكثر من الكل، لا شيء في اندر يمكن أن يعطي فكرة.
  • والحفلة الراقصة حيث تحيط بك الباريسيات الجميلات اللاتي تدافعن لرؤيتك، هل تتذكرها يا دينا؟
  • الكثير الأنوار.. النساء البيضاوات..
ثم ضحك ضحكة واسعة، واستحى من أن يزيد. إن علينا أن نحترم وخز ضمير الملك لنفسه.. وبعد هدوء خاطف، عاد ليكرر عشرات المرات كيف تم عزله من عرش مملكته، فأردف يقول:
"ذات صباح، كثير صباح.. قبل أن نصل السادسة صباحا، وبأمر من السيد القائد الكبير بالاي، والي..." إلخ، إلخ. ثم قام يعزف مقطوعات إفريقية لتكون خاتمة للقاء.
قيل لي بأن الأمور بدأت تتعقد بعد اغتيال الإداري. فالبيظان أصبحوا أقل حضورا في محطات النهر، وبالتالي يخشى من أن تتضرر تجارة العلك. كان علينا أن نطلع بأنفسنا على الوضع، لذلك انتقلنا مباشرة إلى دكانه وبودور على الحدود مع الترارزه والبراكنه.
التقينا في دكانه بمدير الشؤون السياسية السيد مارلين الذي قال:
  • لا يوجد أي تقدم في الملف، ولا أرجو أن نضطر لإلغاء تجارة العلك هذه السنة. الهذر مع هؤلاء البيظان سيضرب بأطنابه. إنهم ملاعين ثرثارون. هل تريدون نصحا؟
  • نعم، قدّمْ لنا النصح.
  • إذهبا إلى بودور، وهذه رسالة بشأنكما إلى الإداري لكليرك. أدرسا معه كيفية ولوج المنطقة عبر بلاد البراكنه.
بعد مقتل زميله، كان الإداري دكليرك متشائما.. كان يقول لنا:
  • أنا متشائم لدرجة أنني لم أعد أخرج وحدي من المركز. لكنهم لو تركوا لي إرادتي لأخذت معي 30 خيّـالا وأتيت بالمجرم مقيدا، إلا أنهم لا يريدون ذلك. فالتجار يقولون بأن تجارة العلك ستكون مهددة إذا حاولنا استخدام القوة.
بعد لقائنا بالإداري المكلف ببودور، التقينا بمترجمه الذي توصل في نقاشه معنا إلى أن دخول الصحاري عبر منطقة البراكنه غير ممكن في هذه الظروف خاصة أن نقاط المياه قليلة. وبالتالي من الأفضل لنا أن نأخذ مسار فينسان وباني بمحاذاة الأطلس حتى مشارف تيرس.
نحن متيقنان أن هذا الطريق ليس بأكثر أمنا من طريق البراكنه، والدليل على ذلك هو ما حدث لسوليي أثناء مغامرته قبل سنوات إذ تم نهبه تماما من قبل عصابة من أولاد الدليم على بعد 250 كلم شمال سان الويس ولم ينقذ حياته إلا بتدخل شيخ ذي تأثير. إذن لن نمر بالبراكنه من أجل الوصول إلى آدرار.
عدنا إلى سان الويس، قلت للسيد مرلين:
  • متى ستتركنا الإدارة نغادر؟
  • الأسبوع المقبل، إذا شئتما.
  • ستعطوننا رسائل تتضمن وصية بتسهيل مهمتنا؛ خاصة رسالة إلى جلالة أحمد سالم أمير الترارزه، وأخرى إلى أحمد عيده زعيم  آدرار؟...
  • بالضبط. غدا نمنحكما الرسائل.
  • لابد لنا أيضا من مترجم.
  • بعد الزوال سأبعث به إليكما.
  • والمدافع التي طلبت من وزارة البحرية؟
  • تأخذونها متى شئتما.. لكن قولا لي، مع ما تبديان من إصرار قوي، هل أنتما مستعدان لهذه المهمة؟
  • مستعدان تماما. وقد حضـّرنا عمالا للمهمة وجمالا للحمل.
بعد غد، اتصلنا بالوالي لتوديعه، فقال لنا:
  • هل تعرفان أن السيد ليون فابير، الذي كان قد كلف من قبل الوزارة بمهمة إلى آدرار، توجّب عليه أن يعود أدراجه سريعا؟ وأنه سيكون هنا يوم 10 من الشهر المقبل، وسيكون في حال يرثى له: سقيم، وقد تخلى عنه جزء من مرافقيه، كما تعرض للنهب والسرقة. هذا المسافر الشجاع لم يستطع أن يتجاوز 400 كلم فتوقف عند تاوزيت حيث استقبله بحفاوة سعد بوه وهو شيخ ذو مكانة كبيرة. الحقيقة أن المضي أبعد مستحيل. فأحمد عيده لم يشأ الاستماع لأي شيء. مع ذلك أرجو لكما حظا أوفر. لكن، هل علمتما بما فعل مرلين في دكانه؟.. فبفضل مجهوداته عادت الأمور إلى مجراها الطبيعي وسيتم إعدام قاتل فينسان رميا بالرصاص، ولن تتوقف تجارة العلك دقيقة واحدة. أظن أن الترارزه حاليا تعيش هدوءا مرضيا.
أعطانا الوالي رسائل التوصيات. في إحداها كتب:
"الحمد لله.. من والي السينغال إلى صديقه وحليفه أحمد سالم زعيم الترارزه.. سلام تام.. إن هدف هذه الرسالة هو أن أوصيك خيرا بالسيد دوني المكلف بمهمة علمية وتجارية في الصحراء.. وأطلب منك أن تسهل مهمته بكل الوسائل المتاحة لك، وأن توفر له جمالا وأغذية بالسعر المحدد حسب المواثيق الموقعة بيننا. وأخيرا أرجو أن تمنحه رسائل إلى حلفائك تستوصيهم به خيرا.. السيد دوني سيكون مرفوقا خلال مهمته بالسيد بونيفال الذي بدوره استوصيك به خيرا.. أعرف أنه بإمكاني هذه المرة، كجميع سابقاتها، أن أعَـوّل عليك".
ثم أعطانا رسالة توصية من أمير البراكنه، جاء فيها:
"من طرف الملك بن الملك أحمدو ولد سيد اعلي ولد احمدو ولد سيد اعلي، إلى أحمد ولد سيد أحمد ولد عيده، وإلى الشيخ سعد بوه، وإلى الشيخ سيديا ولد الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا.. سلام تام.. أخبركم جميعا أن الفرنسيين أصدقائي وأصدقائكم، وكلما التقيتم بفرنسي في أرضكم إفعلوا كل ما في وسعكم لمساعدته وإكرامه وتأمينه".
ثم أعطاني رسالة توصية أخرى، جاء فيها:
"الحمد لله خالق السماوات والأرض.. من بابه ولد حمدي إلى كل من نظر في هذه الرسالة، وإلى كل القبائل العربية.. سلام تام.. إخوتي لعلب، أولاد محمد، أهل أعمر، أهل سدوم، انجخوخه، الكحل، أولاد المختار، لمكاسير، اشريببه، لكنيديه، لمزازكه، لبيدات، الرحاحله، أهل لكويري، أهل محم، أولاد عمران، آرويجات، أولاد البوعليّه، أولاد اللب... أوصيكم خيرا بحامل هذه الرسالة وأطلب منكم مساعدته عند الحاجة.. وإذا كانت علاقاتي القديمة بكم ما تزال كما هي، أرجو أن تساعدوه وتضمنوا سلامته".
بدأت الرحلة كما لو أنها فصول من قصة خيالية.. طيات من التلال على بعد 40 كلم شمال سان الويس، على حافة البحر حيث انتصبت خيمة كبيرة.. حول الخيمة امتزجت الأشياء وتراكمت على شكل صومعة: حُـزَم، أكياس، عفش من القماش، قطن، سكر، تبغ، خرز، جمال جاثمة كالتماثيل، وعلى مقربة من كل هذا الخليط مرجل تلسعه ألسنة لهب نار من الخشب المشتعل. هل يتعلق الأمر بصيادي الفراء؟ أم يتعلق بلصوص؟.. لا هؤلاء ولا أولئك. إنه خادمكم ومرافقوه وجماله وأغراضه.
قائد البعثة جالس على كيس يدخن من غليونه، ورفيقه جالس على كيس آخر يدخن من غليونه، يغالب كل منهما النعاس. وعلى بعد أربع خطوات منهما يضطجع بيظاني على حصير.. هذا البيظاني، الذي يعتبر أهم شخص في القافلة، هو الدليل والمترجم المُحَلــّــف محمْدْ أعمر.
أقول له:
  • قف محمد أعمر. سوف نرسم لك صورة.
بدون عناد، يقف محمد أعمر. قامته جيدة ومتوسطة، نحيف، جاف ككل عربي بالدم، شعره أسود طويل كأذناب الخيل.. إنه غابة عذراء لم تـُـكتشف أبدا.. ومن المؤكد أن محمد أعمر مسلم، لكنه لا يجد حرجا في شرب الخمر سرا أو في الخفاء. ينحدر محمد أعمر من سلالة نبيلة. لقد سجله أبوه في مدرسة سان الويس، وهو يعرف القراءة ويعرف الكتابة، أو يعرفهما نسبيا. نراه تارة يغني مقاطع قديمة لجنود فرنسيين. لا يجهل محمد أي شيء عن حضارتنا، فهو يستخدم الفرشاة والملعقة وينظف فمه على طريقتنا، بالإضافة إلى أنه يـُـتـْـبع كل طلباته (والله يعلم كم هي كثيرة) بعبارة "من فضلك" المتمدنة (S’il te plaît). كما يقول تارة "عفوا" (Pardon)، وعندما يمر بجانبك في الصباح يسألك عن صحتك، ويعرف كيف يُقـَـطــّـب جبينه بحزن عندما تقول له بأنك لم تنم نوما مريحا، أو كيف يبدو فرحا عندما تقول له بأنك نمت نوما مريحا.. خلال حديثه معنا نلاحظ أن محمد أعمر يكثر من التأنيث بدل التذكير والتذكير بدل التأنيث، فعلى مدى ستة أشهر لا أتذكر أنني سمعت منه غير "هذه مدفعي" و"هذا داري". لكن لا ضير، فهذا لم يمنع محمد أعمر من أن يكون مترجما رائعا، كما أنه شاعر، وأكثر من ذلك شاب نزيه. لقد عرفه كل الولاة الفرنسيين في السينغال منذ عهد فيديرب، وكلهم شهدوا له، في إفاداتهم، بالإخلاص والقدرة على امتلاك المبادرة.. وهل بإمكاني أن آخذ عليه جشعه وطمعه؟ فمن منا ليست له نواقصه الصغيرة؟
لنحول أنظارنا الآن نحو النار الموقدة تحت المرجل، فالرجل الأسود الجالس هناك على كوعيه، مشغول بلحم المعزاة والسكين، هو إدريس صار.. إنه أهم شخص بعد محمد أعمر.. إنه طباخ البعثة، صاحب الدعابات الكثيرة التي كثيرا ما يروح ضحيتها أصحابه. وهو متمرس على كيفية إغضاب محمد أعمر عندما يشاء. فيكون علينا - بعض الأحيان- أن نتدخل لحماية كرامة مترجمنا. تارة نوبخه وتارة نعاقبه. عندما نعاقبه على المداعبات التي تغضب محمد أعمر، ينسحب إلى زاوية من الخيمة، وهنيهة ينفجر من الضحك ناظرا إلى محمد أعمر كأنه يتصور كيف سيغضبه غدا.
أما العفريت، صاحب الشعر المجعد، النائم على الأرض تحت لفح الشمس، فهو الحمّال محمدو جالو المبتسم دوما، الثرثار دوما، والكسول دوما.. إنه الصديق الحميم لإدريس صار. ثم يأتي عمر صمبه، وهو أفضل تكروري في العالم، لكن الصبر يعتبر أقل قـيّمه شأنا، فعندما لا يروق له الأمر يضرب برجله الأرض ويضم كفيه ويكرر: Goddam أي "اللعنة" بالانكليزية. لماذا هذه المفردة بدل Doul الولفية؟ ولم لا Merde الفرنسية؟ هذا السر لم أستطع كشفه أبدا. المهم أن عمر صمبه بحار سابق، وهو يفتخر بأنه خدم خمس سنوات في أسطول بحري. ولا يتحرج عن سرقة بعض مؤننا من البسكويت فيهديها باعتزاز لنساء البيظان.. إنه مكلف بترتيب الأغراض والحمل وبعض الأشغال.
وفي آخر القائمة يأتي حارسنا عبد الله، ذلك البيظاني ذو الشعر غير المهذب جيدا، أو الذي لم يهذب أبدا. إنه مهموم بإصلاح الرواحل وترتيب الأغراض. لا يعرف عبد الله أية مفردة من اللغة الفرنسية، لكنه يكمل ذلك النقص المأسوف له بجديته واستعداده التام للقيام بما أوكل إليه من مهام.. يبلغ عبد الله 35 سنة ولم يستحم في عمره أبدا منذ أن ولدته أمه. لقد تراكمت الأوساخ على جلده حتى شكلت درعا فوقه. يَعتبر رفيقي بونيفال أن هذا الدرع قادر على أن يقي عبد الله من الرصاص. فكرت مرة في أن أذهب معي بعبد الله إلى باريس لأقدمه لكلية الطب كي أفند النظرية التي تقول بأن النظافة هي أفضل وسيلة للصحة.
إن أكثر ما يحرج مترجمنا محمد أعمر هو أن يأكل في صحن واحد مع الزنوج المرافقين لنا, فالعرب النبلاء يترفعون عن مؤاكلة هؤلاء. وقد تعهدت له بأنني سأدعوه مرة ليأكل معنا (أنا ورفيقي الفرنسي). فقال لي:
  • هل سنطبخ وجبتنا مع الدهن أم مع الشحم؟
  • مع الشحم، طبعا.
  • أي شحم؟
  • شحم الخنزير.
  • شحم الخزير؟.. إذن أنا لا يمكن الأكل معك أنت.. لكن لماذا البيضاء تصب دائما دهن الخنزير على الكسكس؟
(يعني بالبيضاء البيض أي الأوربيين).
قلت له:
  • أخي محمد أعمر، لم نكن نعتقد أن دينك يمنعك من ذلك..
قال:
  • لو كنت أنا متأكد لا يراني البيظان، أنا آكل الخنزير..
  • ستأكل الخنزير مثل البيض؟
  • أنا بيضاء، جدي بيضاء، أبي بيضاء، زوجي بيضاء، كل الناس بيضاء في أسرتي. وأنا لست مجنونا، تعرف جيدا أنني لست مجنونا، أنا.
  • بالتأكيد، محمد أعمر.
  • الترارزه كلهم مجانين. لم يفهموا النبي.. النبي قال: "حرام أن تأكلوا خنازير البيظان"، لكنه لم يقل "حرام عليكم تأكلوا خنازير البيض". (يعني الأوربيين).
قال بونيفال:
  • لو أن كل سكان الصحراء نظروا إلى إسلامهم بطريقة محمد أعمر لكنا قد أنهينا مهة احتلالهم منذ فترة، وكنا قد شيّدنا طريقا رابطا بين الصحاري، وكنا قد أضأنا تمبكتو بالكهرباء.
وُضِعت الأغراض على الجمال، بعضها يميل يمينا وبعضها يميل يسارا، وهي تكاد تسقط.
قال قائد القافلة محمد أعمر:
  • تعرف جيدا أن سود لا تعرف العمل، لا تعرف شيء إلا يطحنون الذرة ويأكلون الكسكس.. تعالوا، عمر، محمدو جالو، وهذا الطباخ الشرسة التي تنظرني، هذا، كما تعرف، ليس من حقه.. يجب أن تجعلوا كل الأغراض على السنام الكبير للجمال.
رد عليه إدريس صار بقوله:
  • أنا عرفت تعلمت شيَّ لحم الضأن والدجاج والأرانب، وأعرف كيف أقلي البيض. أنا لم عرفت ترويض الخيل والجمل..
قال محمد أعمر، غاضبا:
  • هل ترى هذا الأسود السيئة، دائما يناهضني، قل له أن يحفظني بسلام..
قلت لإدريس بأنني أنذره من أن يتكلم لقائده بهذه الطريقة.
ربط عبد الله زمام كل جمل في مؤخرة الجمل الآخر، وأعطيت الأمر بالرحيل.
أنخنا عند غدير ونصبنا الخيمة للمبيت. كان البعوض يلسع بشكل رهيب وكان زئير الأسود مخيفا. لم يتمكن أي منا من النوم باستثناء عبد الله المحظوظ. كنا نتجمع حول نار أوقدناها لتخويف الأسود وطرد البعوض. وكان من حظنا أن محمدو جالو حكواتي متألق يساعدنا في الصبر على محنتنا بحبل غير منقطع من الكلام. طلبت من محمدو جالو أن يحكي لنا قصة، فحكى أربعا، من بينها واحدة كانت ذات علاقة بشؤون الساعة. إنها تفاصيل أسباب وجود البعوض على الأرض. قال محمدو جالو:
"قبل زمن بعيد، زمن بعيد جدا، كان للسود الولوف ملك. الملك هذا الكبير يدعى عبدولاي جوب. كان قويا، أقوى من كل رجل. لا يخاف التماسيح، لا يخاف الأفاعي، لا يخاف الأسود. عندما يرى الأسد، هو يأخذ الأسد بين ذراعيه، يقتله جدا، يلقيه في النهر. عبدولاي لم يكن شرسا، لكنه قوي جدا وأكسبته قوته المهابة. ذات مرة قال عبولاي: أنا لا أخاف أي شيء مما خلقه الرب. عندما سمعه الرب، نزل إلى أرض الولوف في زي شيخ ديني عجوز، ثيابه ممزقة ويتوكأ على عصا. الرب دخل كوخ الملك عبدولاي. قال له: السلام عليك، عبدولاي جوب. أجابه: عليكم والسلام. قال له الرب: أنا شيخ كهل، كثير كثير تعبان، أعرف أنك أنت عبدولاي رجل قوي. هل تحمل لي حقيبتي حتى بايوت هناك؟.. حمل عبدولاي الحقيبة لكنه لا يستطيع الحركة فهي ثقيلة، أثقل من كل شيء. قال له الرب: أنا الرب جئت لأسألك لماذا أنت تقول بأنك لا تخاف أي شيء صنعه الرب؟.. قال له عبدولاي: السلام عليكم، أنا لم أقل انني لا أخاف الرب، أنا قلت انني لا أخاف أي شيء صنعه الرب. الرب غضب. فأرسل الرعد والبرق والرياح. لكن عبدولاي لم يخف. فأرسل الرب ثلاثة أسود تأكل عبدولاي، فقتلها عبدولاي. فأرسل الرب أفعى كبير تخرج النار من فمها، فأخرج عبدولاي سكينا وقطع رأسها. أرسل الرب ثلاثة رجال كلهم ضخم، أضخم من إدريس على عمر وعمر على محمد أعمر، فقتلهم عبدولاي. غضب الرب غضبا شديدا وأرسل الكثير من الحشرات الصغيرة، لها أجنحة، فكان عبدولاي يضربها برجليه وبيديه وهي تلسعه من هنا وهناك حتى غضب عبدولاي واضطجع على الأرض، فانهالت عليه تلسعه كثير كثير. فلما أصبح وجهه عليه الكثير من الدم، طلب من الرب أن يسامحه. فطلع الرب إلى السماء، لكنه نسي هذه الحشرات على الأرض. إذن بسبب الملك عبدولاي يوجد الآن البعوض في الأرض".
ملاحظة:جميع المعلومات الواردة في هذه الزاوية منقولة مباشرة من المصادر الاستعمارية فهي كتابة للتاريخ من زاوية واحدة ومن وجهة نظر الغالب لذا وجب التنبيه

ليست هناك تعليقات: